هذا البحث معد من قبل الشيخ مجتبى بن العلامة الشيخ عبدالله الطاهر النمر، و إليكم نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
كثر في الآونة الأخيرة - وعلى أثر بعض الملابسات التي أثيرت في خصوص ما يتعلق بشرعية الأدلة المسوقة لاثبات النسب الشريف - تداول بعض ابناء العم شعارات من قبيل " من يعلم حجة على من لا يعلم " و أن القضية قضية انتصار للموازين الشرعية إلى غير ذلك ، ما يشي ببروز ظاهرة خطيرة يخلط فيها المقدس بغيره ، والسائغ بالمحرم ، بحد تغيب فيه قواعد الخلاف الأخلاقية بل العلمية .
وبالرغم من قناعتي بضرورة حصر البحث الشرعي المفصل في المسألة في محاضره المؤهلة و في إطار المختصين ، إلا أني أجد أن ما ذُكر يضطرني لتسجيل بعض الملاحظات والإلماحات ،التي أقصد منها الخروج بفائدتين اساسيتين :
1- أن البحث - شرعياً - ليس بالبساطة التي يتعامل بها البعض ، وأن الموضوع لا يخلو من الفروع والتفصيلات التي تجعل الخلاف وارداً وغير مستبعد .
2- أن لكل فريق علماءه المحترمين القادرين على تبني رؤية شرعية ما ، ولا يجوز لفريق أن يصادر حق الفريق الآخر في الاعتماد على رؤية شرعية مخالفة اذا قامت على أساس من البحث والتحقيق .
----
الملاحظة الأولى : تعليق على مسألة الشهادة
واضح أن آلية الشهادة أحد مصاديق قاعدة " من يعلم حجة على من لا يعلم " ، لذلك فلا يحتكم إليها إلا في الموارد التي تعتبر مجرى لها وموضعاً لتحققها ، دون أن يعني ذلك نفي قيمة هذه الشهادة علمياً في غير هذه الموارد ، ولتوضيح المراد أضرب مثالاً تقريبياً في مسألة مشابهة لموضوعنا وهي مسألة الهلال ، وذلك أنه يمكن أفتراض حالات عديدة للشهادة فيها :-
1- أن لا يتصدى للاستهلال إلا فريق واحد ، يدعي بعد الفحص رؤية الهلال ، وليس هذا محل الكلام
2- أن يتصدى لذلك فريقان ، يدعي الأكفأ منهما في مسألة الهلال والأكثر خبروية رؤية الهلال ، وليس هذا محل الكلام
3- أن يتصدى لذلك فريقان ويكونان متقاربان في الكفاءة والقدرة على الرؤية ، ويدعي أحدهما رؤية الهلال ، وقد اختلف العلماء في مثل هذا المورد ، وهو أيضاً ليس محلاً للكلام .
4- أن يتصدى لذلك فريقان ، ويرى كل منهما جرماً في السماء يتفقان على رؤيته ، إلا أن أحدهما يعتقد أنه هلالاً والآخر ينفي ذلك . وهذا هو حاصل الحال ، وهو محل كلامنا ، وفي مثل هذا المورد لا يعود منطقياً أن تجري شهادة من يعتقد أنه هلال على من لا يعتقد أنه هلال ، إذ ليس هذا من موارد جريان الشهادة .
وما أعرفه ، أن الفريقين المختلفين في وسط الأسرة يعتمدون على البينات والدلائل ذاتها ، غير أن أحدهما يعتقد أنها مثبتة للموضوع شرعاً و الآخر لا يعتقد ذلك أو أنه متوقف لمزيد من المراجعة والتدقيق ، فلا يعود منطقياً الركون لطريق الشهادة لاثبات الموضوع شرعياً على المخالفين في مثل هذه الحالة .
لذلك يجب أن يلتفت الجميع ، أن وضعنا ليس من مصاديق قاعدة " من يعلم حجة على من لا يعلم " ، فليس ثمة جاهل في المقام ، بل المقام مقام فهم مقابل فهم آخر ، و رؤية مقابل رؤية أخرى .
---
الملاحظة الثانية : اطلالة خاطفة على طرق اثبات النسب شرعاً
أهم ما يمكن أن يدعى من خلاله ثبوت النسب شرعاً :
1- أن يُقطع بالانتساب لذرية رجل معين ، يكون معلوم الانتساب عند أهل الاختصاص الموثوقين للدوحة الهاشمية .
2- أن يستفيض - في أوساط محددة - مثل هذه الدعوى بحد يوصل للظن المتاخم للعلم " الاطمئنان " على أقل تقدير، بتفصيلات آتي على ذكرها لاحقاً
3- أن يُعلم ذلك بالطرق العلمية الحديثة ، مثل (الدي أن أي dna).
ولأن أكثر ما يدور الكلام في فلكه فعلاً هو الطريق الثاني ، أتعرض هنا - بايجاز - لبعض النقاط المهمة بالاستعانة بكلمات الفقهاء وعباراتهم :-
* النقطة الأولى : في حقيقة الاستفاضة
يكثر على لسان الفقهاء عند الحديث عن مثل هذه الأمور عبارات مثل : الاستفاضة ، الشياع التسامع ، ويدعي الشيخ النجفي صاحب الجواهر أنها تفيد معنى واحد ، وأضيق : أن الشهرة اذا جاءت في هذا السياق تفيد ذات المعنى .
وقد عرف الشهيد الثاني زين الدين العاملي في "مسالك الأفهام " الاستفاضة بهذا النحو : اخبار جماعة لا تجمعهم داعية التواطؤ عادة ، ويحصل بقولهم العلم بمضمون الخبر .
ويذكر الشهيد الأول نتيجة ما استقراه من عبارات الفقهاء في "القواعد والفوائد فيقول : ضبط الكثير من الأصحاب الاستفاضة ، بما يتاخم العلم و بعضهم بمحصل العلم .
اذا ضابط الاستفاضة هو حصل الظن المتاخم للعلم من خلاله على الأقل وبعضهم اشترط حصول العلم بسببه كما ذكر الشهيد الأول .
ولتوضيح الفارق بين هذه العبارات ، يمكن القول أن الظن هو كل احتمال تجاوز نسبة 50%
إلا أن العلم "الذي يعبر عنه أيضاً باليقين والقطع" هو ما يصل الاحتمال فيه إلى نسبة 100% ، والظن المتاخم للعلم "الذي يعبر عنه بالاطمئنان " هو ما يقرب إلى حد كبير من 100% غير أنه يقل عنها بمقدار ضئيل .
وظاهر -كما قرر الاستاذ الوالد -ان هذا يرجع في الحقيقة الى انه نوع من العلم الذي يدخل تحت باب الاستقراء كما هو مبنى الشهيد الصدر ،وكما هو موضح في كتابه الاسس المنطقيةللاستقراء ، وسآتي على تفصيل ذلك في النقطة اللاحقة .
* النقطة الثانية : طريق تحقق االاستفاضة المثبتة
إن الطريقة العلمية التي تتحقق من خلالها الاستفاضة المثبتة هي طريقة تراكم الظنون ، التي يطلق عليها علمياً بـ"حساب الاحتمالات" ، إذ كل رواية يدلي بها أحد تعتبر قرينة احتمالية على صدق القضية وعدم كذبها ، وبتزايد هذه الشهادات يتراكم الظن بصدق القضية من جهة وبعدم كذبها من جهة أخرى إلى أن نصل إلى العلم بصدقها أو ما يقاربه .
غير أن لهذه الطريقة ضوابط و خصوصيات لابد من مراعاتها . وقبل الدخول في ذكر هذه الخصوصيات ، أتصور أن الشيخ الأنصاري أجاد في تقريب صورة تحقق الشياع -المفيد للثبوت الشرعي - عرفياً في معرض تعليقه على رواية شريفة بـ : (ما ظهر بين الناس من الحكم ... إذ هو معنى الشياع) .
* نقاط يجب مراعاتها ( مستفاد من بحث للشهيد الصدر ) :-
يجب أن يعلم أن هناك خصوصيات تساعد على سرعة تحقق العلم بحساب الاحتمالات وتراكم الظنون ، وفي مقابلها نقاط أخرى تعيق حركة الظن باتجاه التضاخم .
أولاً النقاط التي تعيق من سرعة تكون العلم بحساب الاحتمالات :
1- غرابة الموضوع ، فبقدر ما يكون الموضوع مستبعداً وغريباً احتجنا لمزيد من القرائن والروايات والأدلة . وأوضح مثال لذلك هو الموضوع مورد البحث ، إذ لا خلاف في أن من الأمور الغريبة والمستبعدة أن يختفي النسب عن العائلة على تعدد فروعها ومشاربها ، وعلى ما يكتنف الموضوع من خصوصيات تجعل الموضوع غريباً .
2- تتكرر في كلمات الفقهاء عبارات مثل " جماعة لا تجمعهم داعية التواطؤ " في معرض ما يشترط في مادة الاستفاضة " الروايات والنقولات " ، ويعنون بذلك أنه كلما جمعت بين الرواة والمخبرين خصوصيات أكثر زاد احتمال رجوعهم إلى جهة مشتركة - اعم من المصلحة - في نقولاتهم ، مما يضعف من حركة الظنون وتسارعها ، وينتج عن ذلك :-
أ- أنه لا يجدي في مثل المقام الرجوع للروايات داخل العائلة فقط ، لأن داعية التواطؤ - وهي أعم من المصلحة كما ذكرت - حاضرة بوضوح ، مما يضعف من القدرة للوصول إلى ظن معتبر من خلالها ، وربما كان هذا سبب تقيد بعض الفقهاء - مثل الامام الخميني والسيد السيستاني - بأن تتحقق الاستفاضة في بلده أو بلده الأصلي . نعم قد يشفع لعائلتنا خصوصية تعدد الفروع والمشارب والمناطق بشرط اعتماد الروايات على هذا التعدد.
ب- عدم وثوق الراوي في روايته نفسها ، فإن الرواية التي تقول " أنا سيد ، أو سمعت من أبي أني سيد " أنفع بمراحل في حساب الاحتمالات من الرواية التي تقول " أسمع أننا أشراف ، أو يقولون أننا أشراف " لأسباب منها تأكد داعية التواطؤ و غموض المصادر التي يرجع لها كل نقل وتاريخ هذا المصدر . بل قد يفهم من عبارات بعض الفقهاء عدم اعتبارهم لمثل هذه الروايات في تحقق الاستفاضة ، مثل عبارة الشهيد الثاني في "مسالك الأفهام" : ما يكفي فيه السماع ، فمنه النسب ، فيجوز أن يشهد بالتسامع ( أي الاستفاضة ) أن هذا الرجل ابن فلان ..... ثم يقول : وصفة التسامع ( الاستفاضة ) في ذلك أن يسمع الشاهد الناس ينسبون المشهود بنسبه إلى ذلك الرجل أو القبيلة ".
3-درجة وضوح المدرك المدعى للشهود والرواة ، ففرق بين الشهادة بقضية حسية مباشرة - كنزول المطر - وقضية ليست حسية .. وذلك لأن نسبة الخطأ في المجال الأول أقل منها في المجال الثاني وبهذا كان حصول اليقين في المجال الأول أسرع "العبارة للشهيد الصدر بتصرف"
4- كل ما شك في وثاقة و خبروية واطلاع الشهود والرواة ، كان حصول اليقين أصعب
ثانياً النقاط التي تسارع في تكون اليقين بحساب الاحتمالات ، هي ما يقابل ما ذكر من النقاط السالفة ، فبقدر ما تباعدت مسالك الشهود وتباينت ظروفهم ، وبقدر ما كانوا ثقاة وأهل خبرة واطلاع ، وبقدر ما انتفى فيهم احتمال المصلحة والمنفعة في اخباراتهم ، كان حصول اليقين أسرع وايسر .
وقد يقول البعض ، أنه بناءاً على هذه الشروط والضوابط ، يصبح الوصول إلى اليقين أو ما يتاخمه مستحيلاً ، وبهذا يسد الطريق أمام البحث من أصله ، غير أن هذا التصور غير دقيق تماماً ، والأصوب القول أن الوصول لمثل هذا اليقين صعب جداً ويحتاج لتوافر الكثير من الشروط و القرائن لتحققه .
مجتبى الشيخ عبدالله النمر